إن نظرت إليّ في المرحلة الابتدائية والاعدادية ثم الثانوية فالجامعية، ستجدني اختلفت كثيرًا، ليس شكلًا وإنما عقلًا.
إن أتيت بجهاز “أفكاروميتر” وقِست أفكاري منذ تسعة أعوام ثم أربع أعوام واليوم، ستقول أن الشخصين مختلفيّن؛ فقد تغيّرت أفكاري، وتباعًا: أفعالي.
النصيب الأكبر من تلك التغيّرات قد ظهر في المجال الدراسي. مرة أخرى، آتِ بجهاز “اجتهادوميتر” وستجد اجتهادي الدراسي قد تغيّر بمرور السنوات.
أنظر لمنحنى علاماتي الدراسية منذ الرابع الابتدائي وحتى الأول الجامعي:

إحم، أزلت الدرجات منعًا للحسد!
هذا المنحنى قد صممته لنفسي لتحفيزي على رفع المنحنى. رؤية الصورة الكاملة لرحلتك في أي ناحية حياتية ستجعلك تتيقن أنه بإمكانك الارتقاء بالفعل؛ لأنك ستكتشف أنك كنت في أعلى المنحنى في فترة ما من حياتك، وهذا بدوره: يحفزك.
رحلتي الدراسية كانت صعودًا وهبوطًا، فهيا نربط الأحزمة ونُقلِع لنرى تلك المطبات، مع بعض الملاحظات تجاه أنماط تفكيري التي أدت للصعود أو الهبوط (وبالتالي، يمكن تطبيقها في مناحي الحياة الأخرى).
المرحلة الإبتدائية: ممتاز ولست متفوق!

قبل أن أبدأ الابتدائية، كنت أجيد القراءة! كان أبي يشتري الجرائد يوميًا، وكانت أختي التي تكبرني بسنتين تتعلم القراءة، وكانت أمي تتابعها وتعلّمها. فكنت أراقب ما تتعلمه أختي، وما يقرأه الإعلاميون من الأخبار أمامهم، وأطبقها على الجرائد التي يقرأها أبي. دخلت الروضة ولكن لم أستمر ولم أكن أحبها، وقفت شامخًا كالمستشار وقلت لأبي وأمي باكيًا: “لا أريد الذهاب لهناك”..وقد انتصرت!
بعدها بعدة أشهر يفاجئونني بالمدرسة. دخلت المدرسة ولديّ ميزة تنافسية: أستطيع القراءة والكتابة، وكانت تلك نقطة تفوقي. كانت المعلمة تجعلني أقرأ الدرس أمام الفصل كله، وحسنًا كنت أقرأ. وحتى الإملاء كنت جيدًا فيه، لدرجة قال لي معلم في الصف الرابع لا يعجبه شئ: أنت أستاذ إملاء!
في تلك المرحلة كان المعلمون مفتريين للغاية، كان من الطبيعي أن نكتب الدرس ستة مرات يوميًا، ونحلّ اختبارات الرياضيات واللغة الإنجليزية، وكل هذا في يوم واحد، بطريقة أخرى: كان 12 ساعة من يومي على الأقل يذهب للدراسة. في يوم الخميس، كان يعطينا المعلمون واجبات ضخمة، متحججين: لديكم جمعة وسبت أجازة. وكأنه ليس من حقنا التنعُّم ببعض الراحة.
إجمالًا، كنت الأفضل في الفصل المكوَّن من حوالي 50 طالبًا، ولكن لم أكن من ضمن العشرة الأوائل على المدرسة.
ملحوظة: بعض المعلمين في أغلب الدول العربية يشتكون أن عدد الطلاب في الفصل الواحد يصل إلى 25 طالب وهم لا يستطيعون السيطرة، أقول لهم: تعالوا إلى مدارس مصر وسترغبون في العودة سريعًا لمدارسكم!
المرحلة الإعدادية (الصف السادس إلى التاسع): إنني أهبط!

هل لاحظتم إنني لم أكن ممتازًا بإرادتي وإنما رغمًا عنّي؟ كان لهذا تأثيرًا واضحًا.
لم تعد تتابعني أمي، فيجب أن أعتمد على نفسي، وكان لدي بعض الحرية مقارنةً بالمرحلة السابقة. كنت متوسطًا ولم أفكر يومًا في التفوق لأنه ما الفائدة؟! لقد كنت قنوعًا وراضيًا بدرجاتي، والقناعة كنز لا يفنى.
وهنا أود التركيز على نقطة لا يتفق فيها الكثيرون: لا يمكن الجمع بين القناعة بمستواك والطموح.
الناس تفهم القناعة خطأ، فهي لا تعني أن تبقى قانعًا بمعرفتك أو مستواك أو درجاتك. إنها ببساطة تعني الرضا بما أعطاك الله، المستوى المادي لعائلتك التي وُلدت فيها، مظهرك وصفاتك الجسدية التي لا يمكنك تغييرها. أما الأشياء التي بيدك والتي يمكنك تغييرها، كمعرفتك أو مستواك في أي مجال، فهذا لا يجب أن ترضى به. المعادلة الجيدة هي أن تعلم مقدار تقدمك وتكون ممتنًا لذلك، وفي نفس الوقت تعرف أنه بإمكانك أن تكون أفضل وتسعى لذلك.
هذا ملخص المرحلة الدراسية: كنت قانعًا بالمتوسط، فهبط مستواي الذي كان ممتازًا. ولكن هذا لا يعني أنني كنت قانعًا بدرجات قليلة، بل فقط الدرجات المتوسطة.
أتذكر أنني في الثالث الإعدادي في أول امتحان شهري لمادة الدراسات الاجتماعية، حصلت على درجتين من أصل عشرين!
وبالطبع، لا أحد سيقنَع بذلك. وثقت في قدرتي على مذاكرتها وركزت عليها جدًا، حتى حصلت في آخر السنة على ثمانية عشر درجة من أصل عشرين. ارتفاع كبير.
وهنا الدرس الثاني: عقلية النمو من أهم العقليات التي يجب عليك تبنيها. لقد كنت أتابع حينها ابراهيم الفقي، وعقلية النمو أكثر ما استفدتها منه، بخلاف ذلك أختلف معه في أغلب النقاط..
لذا، طوّر عقلية النمو، ولتكن من أولوياتك في العام الجديد. هناك الكثير من المقالات تشرح هذا الأمر. هنا محاضرة تيد بعنوان قوة أن تؤمن أنك قادر على التحسُّن، وكيف ساعدت تلك العقلية الناس على تحسين أنفسهم.
المرحلة الثانوية: الدراسة بلا فائدة!

يا إلهي! من أين أبدأ الحديث عن تلك المرحلة؟
قلَّ نشاطي البدني، لم أعد ألعب كرة قدم، ولم أكن متحمسًا تجاه ممارسة أي نشاط بدني. كان لهذا تأثيرًا ملحوظًا على مستوى طاقتي، فقد انخفضت بشكلٍ كبير. وحين يقل نشاطك البدني، كل الأسئلة الوجودية ستغزو رأسك؛ أفكارك الايجابية المنتجة ستنخفض، وتحل عليك الأسئلة الوجودية والعدمية، فينخفض نشاطك أكثر. يرتفع نشاط عقلك بصورة مبالغ فيها مقابل انخفاض نشاط جسدك.
هذا الخمول سيحفزه طبيعة تلك المرحلة العمرية. حين تبدأ المرحلة الثانوية، يبدأ تفكيرك في الاستقلال؛ فبعد أن كنت تفعل ما تفعله لأن “بابا وماما قالوا ذلك”، ستبدأ الآن بالتفكير: ما فائدة ما نفعله؟ هل يستحق بذل طاقة فيه؟ ما فائدة ما أدرسه ما دُمت سأنساه بعد الامتحان؟ لم أجد إجابة..ولم أعد أذاكر سوى لأجل مجرد النجاح..درجة النجاح تكفي.
ولكن أحيانًا يصيبك الشعور بالذنب لأنك لا تؤدي مهمتك بما يكفي، وهنا جاء دور اليوتيوب. وجدت وفرة في الفيديوهات القائلة أن النظام التعليمي فاشل والتعليم بلا فائدة، ومنها من أشخاص مؤثرين. في المحتوى العربي نجد أحمد أبو زيد أشهرهم، والأجنبي Prince EA، بخلاف الكثيرين على مختلف شبكات التواصل ممن لم يدخلوا جامعة (وبالتالي يريدون من الجميع عدم دخول الجامعة حتى يصبح الجميع متساوي!). ولا أنكر أن كلامهم كان منطقيًا، خاصةً إن كنّا نتبنى النظرة الضيقة للتعليم التي تقول أن “الغرض من دخول الجامعة هو اكتساب العلم”، وقد أوضحت سابقًا أن هذه هي أضعف حجة -وآخر سبب- يدفعني للاستمرار في الجامعة، لأن لها العديد من الفوائد الأخرى التي تجعل من عدم الحصول على شهادتها بمثابة تدمير للذات. تحدثت عن ذلك في مقالة لماذا لا يجب أن تفكر مطلقًا في ترك الجامعة (حتى مع علمك بقلة فائدتها).
لنعود لموضوعنا، وجدت كلامهم منطقي، مما حفزني أكثر على عدم المذاكرة، والنتيجة؟ حصلت على أدنى الدرجات في الثلاث سنوات في تلك المرحلة. في السنة الأولى كنت متوسط، الثانية كانت أقل علامات في حياتي (تخطيت بعض المواد بدرجات الرأفة)، والثالثة (سنة تحديد المصير كما يقولون) كانت أعلى من الثانية بعض الشئ ولكنها قليلة.
جاءَت مرحلة التنسيق وكنت أُفاضل بين ثلاث كليات فحسب: حقوق، وخدمة اجتماعية، وآداب، بالإضافة للمعاهد العليا. كان يمكنني دخول جامعة القاهرة أو عين شمس لكلية الحقوق ولكنّي رفضتها رفضًا قاطعًا. لا أتخيّل نفسي أستيقظ على المصائب كل يوم، تكفي مصائبي الخاصة.
المهم، اخترت كلية آداب، وفي التشعيب دخلت تخصص علم الاجتماع. لم أختاره بإرادتي، بل فقط وضعت رغباتي وأتاني التخصص حسب درجتي في الثانوية (البكالوريا).
ولتبدأ المرحلة الجامعية.
مرحلة الجامعة: لا أعلم مَن في المركز الثاني؟
شئ مسلّي أن تكون انطوائيًا، فتترك كل الكليات وتدخل علم الاجتماع، ما أسوأ حظّي!
ولكنّي مَن فعلت ذلك في نفسي، بل حتى تخصص علم الاجتماع دخلته بشق الأنفس. إن رأيت ترتيبي وسط الدفعة كلها المكونة من 350 طالبًا من ناحية درجاتنا في الثانوية العامة، ستجد ترتيبي -إن كنّا متفائلين- في المرتبة 300، أو لنتفائل أكثر: 299!
في السنة الأولى من تلك المرحلة كنت متحمسًا جدًا، أريد دخول الجامعة (حيث بابها مفتوح ويمكنك الخروج وقتما شئت، ومساحتها الخضراء المريحة للأعصاب) لدرجة أنني مشيت في يومي الأول حوالي 13 كيلومتر على الأقدام لاستكشافها، وهي بذلك تكون من أعلى أيامي نشاطًا في السنوات الخمس الأخيرة.
كذلك كنت راغبًا في استكشاف علم الاجتماع الذي لا أعرف عنه سوى القليل. هذا كان من الأسباب التي دفعتني للاجتهاد فيها.
الترم الأول أنهيته بأفضل ما يمكن، كنت مجتهدًا ولم أكن أسمح لنفسي بحلّ سؤال خطأ. أما الفصل الدراسي الثاني فكان في بدايات 2020 حين انتشرت الجائحة، فتوقفت الدراسة وأكملنا أونلاين، ولم نمتحن وإنما كان النجاح بنظام الأبحاث وتقديمها إلكترونيًا.
إلى أن ظهرت النتيجة لأجد نفسي حاصلًا على امتياز في أغلب المواد. بحثت عن درجات الزملاء (خاصةً الحاصلين على أعلى الدرجات في الثانوية) فلم أجد أي شخص حصل على درجة أعلى. قلت إذن بنسبة كبيرة سأكون من الأوائل. تمر الشهور واكتشف أنني كنت في المركز الأول بالفعل.
في السنة الثانية كنت جيدًا أيضًا، ولكن كانت هناك مادة شفهية حطمت غروري وأخرجتني من قائمة الأوائل.
حين ترى ذلك، ستسأل نفسك عن السبب الذي جعلني أحقق تلك الطفرة، ما الذي جعلني أتحوّل من المركز 299 إلى المركز الأول في سنة واحدة؟ لقد ذكرت بعضها في تلك التدوينة، وسأترك الباقي لتدوينة أخرى.
يمكننا تلخيص تلك التدوينة، مع اضافة بعض الملاحظات:
1. عقلية النمو هي أهم عقلية يمكن أن تكتسبها، إنها تقلل شعورك بالغيرة والحقد حين ترى من هو أفضل، كما أنها تزيد من شعورك بالحافز وترفع مستواك رغم النتائج المحبطة أحيانًأ. وبلغة كرة القدم: عقلية النمو ستحقق لك الريمونتادا !
2. يستخدم البعض كلمة “القناعة” لتبرير بقاءهم بالخلف. ذلك النوع من “القناعة” قد يريحك نفسيًا، ولكنه سيجعلك تشعر أنك بلا فائدة ويقلل من اعتزازك بذاتك. القناعة تبدأ من امتنانك لكل ما تملك من إمكانيات وقدرات، مع الرغبة في تحقيق أقصى استفادة منها، وبالطبع: تطويرها.
3. ألم الندم أصعب كثيرًا من ألم الاجتهاد: تبدو واضحة. بعض الأشياء الموُكلة إليك والتي تُعتبر من واجباتك ستعتقد أنها غير مهمة (وقد تكون بالفعل كذلك)، ولكن التراخي وعدم فعل تلك الأشياء “غير المهمة” سيكون ألمه على المدى الطويل أكبر مما لو بذلت الجهد اللازم فيها.
دائمًا ما أُذكر نفسي بذلك في أي عمل أقوم به: في كل تعب منفعة.
أو كما قال الزميل هشام فرج في تدوينته السابقة:
“قد تفعل بعض الأمور التي تراها ليست مفيدة ولا تجني منها شيئاً في الوقت الراهن، بعد فترة تدرك أنه نتيجة هذه الأمور الروتينية المجانية حصلت على أمور أخرى كنت تحلم بها وتتمنى حدوثها.
قد تقول أن هذا الأمر لا يسري على الدراسة فهي غير مفيدة في كثير من الأحيان. ولكن إن وسّعت نظرتك ستجدها ستفيدك من نواحي الأخرى، وأهمها الاجتماعية.
حتى تفهمونني بطريقة دقيقة: لا أقصد أن تضع جل مجهودك في تلك الأشياء التي تظن أنها “غير مفيدة”. يبقى التوازن مهمًا جدًا، ولكن علينا أن نتذكر أننا من حين لآخر سنضطر لفعل أشياء لا نفتنع بها..هكذا عاش جميع البشر من قبلنا.
مينا يسأل: ما أفضل نتيجة أو مركز دراسي حققته؟
فكرة واحدة على ”تجربتي الدراسية شبه الكاملة من 2007 حتى 2021: كيف صعدَت درجاتي وهبطت؟“